اُلْخَيَالُ
المُجَنَّحُ
كـانـت الصّدفة
وحـدها كـافـيـة بـأن تـحـمـلـنـي مـن خـلالـهـا و دونَ اسـتـئـذان ، كـمـنـارة
تـخـرق الـفـضـاء لـتـسـكـب أنـوارهـا عـلى لـوحـة فـنـيّـة طـبـيـعـيّة سـاحـرة مـبـدعـة
صـافـيـة ؛ و تضـمّــني بـواسـطـتـهـا إلـى عالمها السّاحر الآسر؛ عالمٌ طالما تمنّيته
في صحوي و منامي ؛ عالمٌ يشدّني في أدقّ تفاصيله دون أن أملَّه أو يملّني بقدر شوق
كلينا للآخر .
دفعني الفضول في معرفتها و الاقتراب منها أكثر إلى أن أزور مسقط رأسها علّني أظفر من الوجوه المارّة
هناك أو من الحجارة المرصوصة في بناءاتها البسيطة أو في نسمات أماسيها الهادئة ؛ خيطا
يقودني إليها أكثر و يقرّب الصورة التي رسمتها
لها بداخلي .
كانت بـلـدة
صـغـيـرة مـوغـلـة فـي الـقـدم ؛ شـهـدت مـرور الـبـيـزنـطـيـين و الـرومـان مـن هـنــاك
؛ و تسمّعت أرضها وقْعَ سنابك خيلهم وهي تقرعها في روحها و غُدُوِّها ؛ و شهدت أوجَ
أيّام تجارتهم ؛ حتّى صارت فيما بعد مقصد القدامى في البحث عن آثار تركوها شاهدا على
مرورهم في رحلة بحثهم عن المرج الأخضر و ينابيع الماء التي تضمن العيش لهم و لحيواناتهم .
هنا عاشت بين أنهجها القليلة و أزقتها الملتوية زمنا
من العمر ؛ زمنٌ أخاله حفر في أعماقها شخصيّةَ مرحةً متفائلة منطلقةً كما هي عليه اليوم ؛ زمنٌ أهداني من كنت أبحث عنها
في داخلي و أقتفي آثاراها حتّى وجدتها أمامي كما تهوى نفسي و تتوق إليها جوارحي .
أتخيّلها ترتع مع أقرانها تلوّح في الفضاء بضفائرها
المستدلة على ظهرها و ترسل ضحكاتها البريئة ؛ فيتردّد صداها في البلدة الغارقة في سكونها
و أتخيّل نفسي ألاحقها ؛ ألاعبها و أمسك بها من ضفائرها فتسقط حينا و تستدير لي أحيانا
تطلب أن أسرّح شعرها من قبضتي فأضمّها ببراءة الصّغار إلى صدري و أتسمّع خفقان قلبها
الصّغير ؛ فأعيد السكون و الأمان لجدائلها ؛ فتبتسم في دعةٍ و صفاء ممّا يزيدني حبّا في مشاركتها كلَّ لهوها حتّى بتُّ
أكره ليلا يفرّقنا فيُغلق دوننا أبوابه و يضع حدّا لتواجدنا معا ؛ و أصاحب نهارا كثيرا
ما يُشفق عليّ فيجمعنا بين ضلوعه.
هنا كانت ترسم عند أماسي الصّيف على وجه الأرض بطبشورها
الملوّن لعبتها المفضّلة ؛ لتقفز بين خاناتها على قدم واحدة ؛ و إذا ما فقدت توازنها
تسقط ضاحكة رغم امتلاء عينيها بالدّمع حتّى لا تقرّ بفشلها ؛ و أرى نفسي أسارع نحوها و
أجثو على ركبتيّ في حنوٍّ ؛ أسكّن من روعها و أهوّن عليها جرحَها ؛ فتبتسم متناسية
ما بها و تُشرق عيناها بذاك السّحر الذي يشدّني دوما إليها .
هنا كانت تجلس مع صُويحباتها عند القيلولة في غفلة
من الأهالي لتشاركهنّ اللعب بعرائسهنّ المصنوعة من الخشب و المغلّفة بقراطيس الحلوى
الفارغة ؛ و كثيرا ما كانت تصنع لها ملابس من خرقٍ بالية أو تسرق بعض القماش لأمّها
حتّى تخيط أثوابا جديدة لدميتها أو " ابنتها " كما يحلو لها تسميتها ؛ فأتخيّل
نفسي آخذها منهنّ ماسكا يدها ؛ مترفّقا بمشيتها المترنّحة ؛ و أركبها ورائي على حصاني
الذي صنعته بواسطة خشبة عريضة فوق برميل مثبّت
بآجرتين ؛ فتمسك بقميصي مغبّة السقوط فأضغط يديها تحت إبطيّ فتهدأ و تحرّك رجليها مستحثّة حصاننا
على المسير .
هنا كانت تعود بدفاتر المراسلة فيوقفها أقاربها ليروا
نتائجها و يحيّوا همّتها في تحدّي الصّعاب التي وجدت نفسها يوما تحيا جزءا منها ؛ تقفز
على حواجزها و تجتاز آلامها بالمثابرة و تحلُم بغدِ أفضل للتّخلّص من قيودٍ رسمتها
التّقاليد و الأعراف التي لا ترحم من يحيد عنها .
هنا ركبت العربة المجرورة على ظهر الحمار لتقصد بساتين
التين و الإجّاص و اللّوز و حقول القمح و الشّعير أيّام العطل و عند أماسي الصّيف ؛
فتقطف ثمارها و تختفي بين سنابلها و تستمتع بأكل الغلال في طريق العودة مردّدة ما حفظت
من الأناشيد .
هنا اعتلت صهوة الحصان فيُسقطها تارة أو يحمحم مرحّبا بصحبتها تارة أخرى ؛ فتراني
في حلمي أُمسِك بلجامه و أترفّق في قيادته حتّى لا تسقط نجمتي .
هنا شهدتْ ليال الصّيف المقمرة في البيدر وراء "جاروشةٍ " مجنونة تقصف أعناق السّنابل فتحيلها حبّا ذهبيّا ؛ و لا تترك
ركوبَها إلاّ عندما تشعر بالدّوار أو تحت إلحاح باقي إخوتها لينالوا حظَّهم من ظهر "الجاروشة " التي لا تهدأ حركتها إلى
وقت متأخّر من الليل ؛ فأتنازل لها في حلمي ؛
بكلّ الرضى عن دوري لأستمتع بضحكاتها تعلو وهي تستزيد من الركوب و تستعذب نسمات
الليل .
هنا عاشت جزءا من أيّام رائعة لازالت تشدّها إلى يومنا
هذا إلى سحر ذاك المكان رغم ما عرفته من حياة المدن و صخبها ؛ و من شدّة الشبه بيننا
كنت لا أرى نفسي إلاّ مشاركا لها في كلّ أمرها أو هكذا تمنّيتُ لو عاد بي الزّمن إلى
الخلف .
دخـلـتُ الـبـلـدة بـسـلام و مـحـبّـة دون أن تكـدّر
صـفـوي شـائـبـة ، حـتّـى خِـلـت أنّ أهلها أهلي و عشيرتها عشيرتي ؛ فالصّغير قبل الكبير
كان يـبـادرنـي بالـسـلام في هـدوء وطيبة غير
غريبة عن أهل الرّيف البسطاء .
كنْتُ أرى القرية بسيطة في بساطتها ؛ جميلة في جمال
روحها ؛ ضاحكة في لون أحلامها ؛ و ألمح في أهلها تلك البساطة غير المتكلّفةِ ؛ و هذا
ما شدّني إلى المكان و كأنّي مررتُ به يوما في ذاكرة الصّبا و أحياه اليوم في كهولتي .
مالت الشّمس نحو المغيب مذعنة لساعة الرّحيل ؛ كصبيّةٍ
فاتنةٍ تنحني وراءَ الحُجُبِ مُودّعةً ؛ تُسْدِلُ جدائلها صفراءَ في لون الذّهبِ ؛
تُناجي حبيبا عزيزا على القلب ؛ ترسمُ على
وجهه بسمة العاشق الولهان و تلثمُ بأشعّتها شفتيه لتعيد له الحياة في دعةٍ ؛ فتتزيّن صفحة السّماء باللون البرتقاليّ حياء و
خجلا ؛ و تهدهده بأناملها كما تفعل الأمّ بأعزّ
الأولاد ؛ و تشُدُّ على يديه واعدة بروعة القادمِ من الأيّام ؛ فيبتسم ضاحكا عن ثغر
مرصّع بالجواهر ؛ و تنقلبُ زرقةُ عينيه إلى
الأصفر المذهّبِ تشبُّهًا بالحبيب المغادر ؛ فيرقصُ الطير شاهدا على وداع اللحظات و
ما يَدورُ من همسات : " سأعود ... سأعودُ حبيبي فلا تفرّ بعيدا ... غدا ألقاك
و القلب يهواك " .
كانت هذه الصورة التي تبادرت إلى ذهني وأنا أنتظر انتهاء
المؤذّن من رفع الآذان و أتذكّر طفولتي عندما كان ينهرني والدي رحمة الله عليه من الخروج
في مثل هذا الوقت : " انتهى وقت اللعب ؛ اذهب لتذاكر دروسك قبل النّوم " .
كـانـت أعـداد المصلّين تـزداد داخـل الـمـسـجـد شيئا فشيئا ؛ و كـنـت أرى
في أعـيـنـهـم و أقـرأ عـلى مـلامـحـهـم الـعـديـد مـن الأسـئـلـة تكاد تقفز على أطراف
ألسنتهم :
_ تـرى مـن يـكـون هـذا الـرجـل ؟ أي
عـائـلـة يـزور ؟ مـا سـرّ قـدومـه إلى ديـارنـا الـمـنـزويـة ؟ أيكـون عـابـر سـبـيـل
أنـاخ رحـالـه بـيـنـنـا مـن عـنـاء الـسـفـر
؟
لم تهدأ تساؤلاتهم المتدافعة في محاجر أعينهم ؛ و لم
تخْبُ أو تتوقّف حول هذا الزّائر الغريب عن القرية إلاّ بإقام صلاة المغرب حيث وضع
لها حدّا و أقبل الجميع على عبادتهم يصطفّون جنبا إلى جنب في خشوع تامّ وراء إمام طاعن
في السّنّ متناسين أمري إلى حين .
و بمجرّد انتهاء الصلاة ؛ خرجت من الجامع كمن يتحسّس
كلّ تلك الذّكريات الحبلى بكلّ ما هو جميل و شعرت بأنّي أشاركها جزءا من ماضيها و حتّى
حاضرها ؛ و زارني يقين غريب لا أعلم مصدره ؛ أنّها تسعد بوجود من يقاسمها تلك الأحلام
و يرنو إلى ملاحقة الفراش في مثل هذا العمر؛ أستشعر رضاها و راحتها وهي تروي لي أيّام
صباها كأنّها تخرج من أسوار ذاتي لتحدّثني
عن ذاتي ؛ فما إن تبدأ هي الجزء الأوّل من الحديث حتّى أكمله لها ؛ و كأني عشته معها
لحظة بلحظة ؛ و كم مرّة أحدّثها في أمرٍ من أمور الصّبى فأجدها تسبقني إليه تستحضر
لحظاته الرّائعة لتبسطه أمامي و تعيشه معي في أدقّ تفاصيله بحلوه و مرّه ؛ أراها تعلو
و تعلو في الفضاء حيث لا حديث إلاّ حديث النّجوم الهامسة في صمت الليل ؛ و تأخذني من
يدي لأحلّق معها دون انقطاع وسط النّجوم و تقترب من واحدة لتنزعها من ثوب السماء و
تضعها وساما على صدري و تأمرها أن تكون حارسي في وحدتي و ساعي البريد بيننا ؛ تحفظ
سرّنا و تُبعد عنّا أشباح الإنس و الجنّ ؛ أواصل معها تحليقي و قد خلعت رداء الخوف
من أسلاك الكهرباء التي كنت أرهبها كلما حلّقت في السّماء أثناء الحلم :
_ أصُحْبتُها تجعلني أنسى خوفي ؟ أم هو الشعور بالسعادة في رفقتها يُبعد عنّي
الرّهبةَ و الفزع و يُنسيني أمر الأسلاك ؟ أم هو الأمان إلى جانبها يُلغي الخوفَ من
قاموسي ؟ أم هو الإحساس بأنّ شَبَهي يحمل ما أحمل داخلي و يحيا ما أشعر به فيرفع عنّي
ذاك الأمرُ الرّهبةَ من التّحليق و الاصطدام بأسلاك الكهرباء ؟
مـنـذ تـلـك
اللحظة التي عرفتها فيها و الأسـئـلـة تـتـزاحـم في ذهـنـي :
_ لـسـت أدري هـل ورّطـت نـفـسي فـي حـبّ افـتـراضـي ؟ حبّ مـع أنثى أظنّ أنّها
تعيش داخلي و تسكن طفولتي كما شبابي و كهولتي ؟ رغم أنّي لـم أرهـا قـطّ ؛ ممّا جـعـلـنـي أسـتسيغ السّفر إلى مـسـقـط رأسـهـا لأكـتـشـف
مـهـد طـفـولـتـهـا و مـنـبـع نـشـأتـهـا ؛ و أسـتـقـي مـن خـلالـهـا ذكـريـات كـثـيـرة
لـعـلّـهـا تـوقـظ فـي نـفـسـي أحـلام مـاض قريب ؛ كادت المدنيّة تخنقها داخلي و تئد
سحرَها الرّائعَ فتتوه منّي بعيدا فينكسر كلّ جميل يسكن أعماقي ؛ أم هـو مـجـرّد إعـجـاب
بـسـطـور كـانـت تـخـطّـهـا أنـامـلـهـا الـمـلـهِـمـة في تحاورنا و تحادثنا ؛ اسـتـطـاعـت
بـواسـطـتـهـا أن تـحـلّ تـلك الـشـفـرة الـمـبـهـمـة و كـلـمـة الـسـرّ الـمـسـتـعـصـيـة
الـتي يـرقـد وراءهـا قـلـبـي الـمتعطّش للدّفء مـنـذ سـنـيـن فتنفض عنه الغبار و تُذيب
عنه الثلج الذي يغلّفه ؟
كان لها أسلـوب راقٍ فـي ملامسة الأحاسيس فتنتشي النّفس
بـسـحـره و تستمتع بروعته و تستأنس بصدقه و يستعذب العقل حبكتَه .
كان التّشابه بيننا في معظم أمرنا ممّا جعل المسافات تتهاوى حتى تنعدم قلاعها الهشّة أمام هذا التّشابه
العجيب .
نعم هي شبهي و أنا شبهها و كلانا يغرق في الشّبه .
سمعها إحساسي
يوما تقول لي دون أن تتكلّم :
_ أظنّك فُقتَ الشّبهَ و صرت بالعظمِ ملتصقَا ... أظنّك
الظلَّ بل الصاحبَ و الخِلَّ ... أراك الدّمعَ بل العينَ أو أنّك مهجتها ... بل أنت
النّفَسُ الذي يتردّد بين الأضلع ... فهل أبقيتَ لي من شيء دون أن تكون أنت محوره و
قلب الرّحى الذي يدور حوله ؟
وجـدتني مـن كـثـرة اهـتـمـامـي و إعـجـابي بـهـذه
الأنثى أرمـي بـنـفـسـي بـيـن أحـضـان عـالـمـهـا الـسـحـري : عالمٌ موشّح بالأحلام
و الآمال ؛ أسير في هدوء و دعةٍ وراء نفس منطلقة
؛ محبّة للحياة في غير غلوّ ؛ مرهفة الإحساس
؛ رقيقة المشاعر ؛ يأسرني لفظُها و بساطة أدواتها .
لم أفكّر في أيّ شيء و أنا أفـتـح لـهـا خـزائـن ذكـريـاتي
؛ لم ينتبني الخوف و لا الرّيبةُ و أنا أبـوح لهـا بـكـلّ عـفـويّـة و دون تكلّف عـن دفـاتـر حـيـاتـي
و أسـراري مـنـذ نـعـومـة أظـافـري ؛ حتّى كأني أتحدّث معها حديثَ النّفس للنّفسِ ؛
كنت برفقتها أشعر بمعنى الحياة في بساطتها و أستعذب ذكريات طفولتها المفعمة بالطّيبة
؛ تلك الذّكريات التي تحملني إلى طفولةٍ أتلذّذ بتذكّرها و استرجاع أحداثها في أصغر
جزئياتها ؛ فأتبسّم غصبا عنّي حتّى في أحلك الأوقات ؛ طفولة تَذْكُرُها فأشعر و كأنّها تحدّثني عن طفولتي
الرّائعة ؛ ألقاها و تلقاني فلا أشعر بمرور الزّمن و لا بمعنى لدوران عقارب السّاعة .
قالت لي يوما في حلمي :
_ أتعرف يا شبهي فيما أفكّر ؟
تهلّل وجهي و قلتُ بصوت الظافر بشيء قد يزيد من سروره
و فرحه :
_ هيّا أسمعيني ؛ كلّي آذان صاغية .
_ كلّما التقيتك أخاف أن ينتهي الزّمن قبل أن تولد الكلمات لتُنْبِت في قلبك حقلا
مائجا بالسّنابل المُثْقَلة بالمودّة ؛ و أتمنّى لو يُغْمِض جفنيه عنّا إلى حين نرتوي
من ذاك النّهر اللذيذ .
أمسكت براحتها أدْفَقُ لها الشعورَ بالأمان ؛ أحسست
بارتباكها و رعشة سرت في جسمها نقلتها بدورها لي ؛ فعدتُ أغرق في الضّحك حتّى أُخفي
ما بي من ارتباك و أرفع عنها الحرج الذي بدا مرتعشا في ضحكتها و تورُّدِ وجنتيها ؛
كأنّ الضّحك صار ملجئي لأخفي عنها عشقي لها
.
جلستُ إليها يوما ؛ نظرتُ في عينيها المتّقدتين ذكاءً
؛ فرأيت وجهي يلمع على صفحتيْ مقلتيها ؛ و سمعت دقّات قلبي تردّد في مهجتيها ؛ تعجّبتُ
بادئ الأمر لكنّها روت لي ما كانت تراه في عينيّ فقالت بنبرة عذبة جعلتني أحلّق في
سماءِ عالمِها الذي كثيرا ما كنت أتمنّاه في صحوي كما في حلمي :
_ أتعرف ما أرى في عينيك ؟
خِفتُ أن تفضحني عيناي و تنقل لها ما بي من وجْدٍ ؛
فضحكت كعادتي عاليا حتّى أشغلها و أشتّت تركيزها و أتحيّن الفرصة لأسأل عينيّ بأيّ
سرّ باحت لها .
فأردفت كمن عرفتْ بسرِّ ما كانت تحدّثني به نفسي و
تفضح همسي لعينيّ :
_ أرى وجهي يلمع في بؤبُؤيْ عينيك ؛ أتحسّس نَفَسي يُماهِي
أنفاسَك ؛ ألمح أقدامي تقفو آثار أقدامك ... ما أجمل أن تكون عيناك مرآة عاكسة لقلبي
؛ ترمش بدقّاته و تتبسّم لسعادته و تفضح أحاسيسه الرّائعة .
ثمّ واصلت في استرسال المستعذب لما يقول :
_ أتعرف يا أنت ؟ هناك من النّاس رغم
بعد المسافات تجمعنا بهم الأقدار ؛ فنسعد في
قربهم و نألف وجودهم بعد أن احتلّوا بامتياز مقاعدهم في قلوبنا فلا تفرّقنا عنهم المسافات
و لا الأوقات ؛ نبحث لهم عن أعذار و نذكر لهم في أنفسنا ساعات المودّة و طيبة قلوبهم
و صفاء نفوسهم ؛ فإن رحلوا رحلت أرواحنا معهم أو نعيش نحرس ذكرياتنا في غيابهم على
أمل أن يعيدهم الحنين إلى مرافئهم حيث تعوّدنا أن نلقاهم مثلما تعود الطيور المهاجرة
إلى موطنها مهما أخذتها المسافات ؛ وأحسبك منهم بل أنت تختزلهم .
قفزت السعادة على محيّاي ؛ و نطق لساني إليها برسائل
مشفّرة ؛ لا أظنّ فكّها ينطلي على أمثالها :
_ نحن نتذكّر من ننسى و نذكر دائما من لم ننس .
_ لكن من يسكنك في كلّ لحظاتك ؛ يعيش معك على الدّوام
لا يغادرك ؛ لستَ في حاجة إلى أن تذكره أو تتذكّره ما دام هو نفسه الهواءَ الذي تتنفّس .
زاد تعلّقي بها في صمت حتّى لا أفقدها ؛ أخاف إن بُحتُ
لها بما يعتلج نفسي المتعبة بحبّها الصّامت أن لا أجد لها أثرا ؛ فربّما الدّوام على
الشّيء يُضعف كمَّه و ينقصه حتّى يُفنيه و يُصيِّر لونَه باهتا كمن يواظب على ارتداء
نفس القميص حتّى يشيخ و يفقد نضارته ؛ و هذا ما لا أريده لكلينا ؛ بل أصمت حتى لا تضيع
مني وسط الزحام و أكتفي بالقليل لأحيا عليه بقيّةَ ليلي في يقظتي و جزءًا من حُلمي
؛ فربّما الـتّضمين بمشاعري أفضل من التّصريح بها .
قلتُ لها يوما في حديثي الصّامت :
_ ما جديدك ؟
قالت في دفء :
_أغمضُ عينيّ على صورة الأمس القريب و أصنعُ منها قلائد متجدّدة تفوح عطرا في
كل حين .
_ ما أجمل كلماتك ؛ أذيقيني من خمرتها كلّما سكبتِ شيئا في كأسي .
_ أنت عاصرُ الخمرةِ و صاحب الكأس التي ارتوتْ منها كلماتي ؛ فكيف أذيقك و الكأس
بيدك حُبلى بالنّبيذ المُعتّق ؟ كيف أرويك و أنت ساكنُ ظلَّ شجرةَ الزّبيب ؟
ثمّ واصلت كمن يتحسّر في نفسه على أمرٍ لا حيلةَ له
في تغييره :
_ تُهدينا الأيام أحيانا أشخاصا يُكمّلون مشاعرنا و يجسّدون حلمنا ؛ لكنّه إهداء
مقيت ؛ إهداء انتهت مدّة صلاحيته ؛ فما جدوى ذاك الإهداء و نحن نرقبه بعيدا ... بعيدا
كالنّجوم في السماء دون أن تطاله أيادينا .
تحزّ في نفسي كلماتها أحيانا أو بالأحرى تثير فيّ مزيدا
من الاهتمام بها ؛ ذاك الاهتمام الذي يتحوّل إلى ألم و وجع كلّما اصطدم بالواقع ؛ و
لا أجـد مـبـرّرا لـتـعـسّـفـي " و بـطـريـقـة صـبـيـانـيّـة " عـلى مـشـاعـرهـا
من شدّة خوفي من أن تتوه بعيدا عنّي ؛ و في المقابل أجدني أقاوم حتّى لا أفـقـد قـدرة
السّـيـطـرة و الـتـحـكّـم في كـبـح لـجـام وجـدانـي نـحـوهـا ؛ فأهرب منها إليها كالنّحل
الغادي بين الزّهر إلى الزّهر ؛ فلا هو يستطيع أن يتخلّى عن أفواهه و أكمامه و لا هو
قادر على ترك واجب العمل في الخليّة .
لا أجـدنـي إلاّ و قـد بـدأت طـريـقا إليـهـا لأتـركـه متردّدا ؛ خوفا من أن أفقدَ الحلمَ
بتواجدها الآن معي ؛ فأبـدأ طـريـقا آخـر أتوهّم
أنّه بمنأى عنها ؛ لكنّي لا أعرف كيف أكـمـلـه من دونها أو بعيدا عنها فأعود أدراجي
إلى أعتابها و مرافئها و كلّ مكان يذكّرني بها .
أتوه من جديد كلّما اقتربتُ منها ؛ فإلـى الآن لـم
أجـد مع هـذه الـمـرأة بـدايـة طـريـقـي الـذي يـجـب أن أسـلـكـه إلـى نـهـايـتـه ؛
حـتّـى مـلـلـت نـفـسي و سـئـمـت الـسُّبُلَ الـتـي أنتهجـهـا ؛ و سـئـمـت الـسّـيـرَ
وراء أوهام تـجـلّـت ؛ و مـشـاعـر ورديّـة بـزغـت ؛ و أحـاول جـاهـدا قـمـعـهـا و إخـمـاد
لـهـيـبـهـا مـا دام فـي صـدري نـفـس يـتـردّد و أنتظر ما سيُهديني القدر بعد أن جمعني
بها في منتصف العمر دون أن أطلبها منه ؛ و لكنّي أستدرك في نفسي و أقول :
_ رغم ما نعيشه من صراع بين الواقع و المأمول فيمكن اعتبار ذلك حالة مزدوجة ،
مرهقة و لكنّها ممتعة ، نعيش فيها روعة الانتشاء ولوعة الشجن ، لا نملّ من تذوّقها
كأقراص الشّهد أو كطعم حبّة الحلوى تلك التّي اقتسمناها يوما بيننا بأسناننا و استشعرنا لذّة
السعادة في لعابها القليل ؛ سعادة تأخذ بالقلوب و الألباب و تجعلنا ننتصر على المستحيل
ولو كان ذلك بالحلم ... فمازال في قلبي صرح
الأمنيات كما كان ... أن تظلّلنا شجيرات الفلّ و الياسميــــــــن فنلْقَى ذاك الرّبيعَ
المتبسّمَ في خجــــــــــل و نراقص نجومَ
الصّيفِ الحالمـــــــــــــة ... يُقال ليست الحياةُ بالأمنيـــــــــــــــــــــات...
عسى أن تخجلَ الأمنيات أمام حلمي
الكاتبة نجيبة بوغندة
====================
ورودي لكم عفاف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق