عزيزةُ قومِها تُغْتَصَبُ
دام حصار
المدينة طويلا و طالت معه ليالِ الخوف من المجهول
و اُمتد معه الجوع و الألم و كثرة النّعوش حتّى صارت صلوات الجنائز تَغلُبُ على صلوات
الفرائض .
وضعَ رأسَه بين راحتين غليظتين أرهقَهما المعول و الرّفش
و حملُ الحجارة من المقاطع فتشقّق أديمها و اُنفتحت أخاديدها .
جلس على حشيّةٍ باليةٍ أكل الدّهر عليها و شرب و تناثرت
عليها الرّقع و الثّقوب تحكي وجعها الصّامتَ و حملَ ثِقَلَ رأسه بين كفّيه يهزّه و
باقي جسمه إلى الأمام رجوعا إلى الوراء في حركةٍ مسترسلة تُفضيك إلى حالةٍ من الاِرتباك
و الاِنشغال و الحيرةِ .
علتْ الضّجّةُ المكانَ الغارقَ في أحزانه و أوجاعه
... كان صوتُ ولدِه حديثِ الولادةِ يصُمّ آذانه فيزيد من آلامه ، فهو لم يشرب حليبا
منذ ثلاثةِ أيّامٍ حتّى أنّ ثديَ أمّه جفّ و لم يعد يقدر أن يدرّ عليه ما يبلّل به
حلقَه الظمآن .
بحثت المسكينةُ في كلّ أركان مطبخها عمّا تسكّن به
جوعه و تُوقِفُ به بكاءه فلا تجد أمامها غير قطراتِ ماء تجود بها الحنفيّة من حين إلى
آخر بعد أن تحطّمت محطّات ضخّ الماء من أثر القصف المتواصل ، فتغليها و تملأ بها رضّاعته أو تحضنه إلى صدرها
و تُلقمه ثديها إيهاما له بالطّعامِ لكنه سرعان ما يتركه و ينخرط في البكاء من جديدٍ
فتحمله بين ذراعيها و تذرع به الغرفةَ جيئةً و ذهابا رافعةً صوتها بأغانٍ حفظتها عن
أمّها تهدهده بها حتّى يغفو و يسكن صوته لدقائقَ معدودة لترتفع عقيرته بالبكاء من جديدٍ .
أمّي ... بطني يؤلمني و الدّوار يكاد يُفقدني توازني . _
_ لا تجزع يا بنيّ ... صبرا ستُفرجُ قريبا بإذن الله .
_ أتظنّين ذلك يا أمّي ؟
رحمة ربّنا فوق كلّ تصوّرٍ ... _
تظاهر الأبُ بعدم السّماع و واصل حركة جسمه المضطربة
، فجوع فلذات كبده تُقطّعُ أوصاله و تزيد من
أوجاعه و لكنه يقف مكتوف اليدين لا يعرف ما يفعله لأسرته الصّغيرةِ :
اللعنة على الحربِ ... ألا ترقّ لحال هؤلاء الصّغار
فتضع أوزارها ؟_
_ هو حال كلّ أطفال البلد .
قالت ذلك و يدها لا تتوقّف عن هدهدة ابنها الصّغير .
فجأةً قفز من مكانه و اُنتعل حذاءه ليُريح ظهرَ الحشيّةِ
من ثقلِ جسمه .
_ إلى أين في مثل هذا الوقتِ ؟ ألا تسمع صوت الرّصاص و طلقات المدافع تدكّ الحيّ
دكّا ؟
لن يكون وقعُها أقوى من صوتِ بكاء صغيريّ الجائعين . _
ماذا عساك تفعل و كلّ الدّكاكين موصدةٌ دون ما تطلب
؟ _
سأتدبّر أمري فلا تقلقي ._
خرج لا يلوي على شيء غير العثور عمّا يسكّن به جوع
صغيريه و يُذهب الدّوّار عن حبيبِيْ أبيهما .
طال اِنتظارها وهي تُودّع شمسَ ذاك اليوم ... بكى الصّغير
حتّى توقّف البكاءُ في حلقه و نام ابن العاشرةِ دون مطلبه ، لكنّ حركتها لم تهدأ و
لم تفتُرْ بل اِزدادت مع اُزدياد اُنشغالها و هواجسها التي تعبث بها بعيدا و تعود لتلقيها
بكلّ ما أوتيت من قوّة لتنهشها بلا رحمةٍ و لا شفقةٍ :
_ ترى ما الّذي أخّرهُ ؟ أيكون قد وجد حليبا ؟ أينجح في العودةِ سالما ؟ أو هو
واقع في أيدي تلك الكلاب السّعرانةِ ؟
وما إن تصل إلى ذاك الحدّ من التّفكير حتّى تُسرع تطرد
عن ذهنها تلك الهواجس و تُتمتم بكلمات تطلب الرّحمة و حسن العاقبةِ.
و بينما هي على تلك الحالة التي لا تُحسد عليها إذ
تناهى إلى مسمعها صوتُ أقدام تقترب على الدّرج ... رقصت الفرحة للحظةٍ بين جنباتها و تهلّلت أساريرُ وجهها لكن سرعان ما
وُئِد الأمل بين شفتيها فقد تكاثرت أصوات الأقدام
يكاد الدّرج يختنق بأصحابها ... اِنخلع
قلبها من مكانه تستشعر خطرا محدقا بها في غياب زوجها فتراجعت قليلا تهدّئ من روعها
و تُصبّر حالها :
_ أيكون بعض الجيران يهربون إلى عمارتنا
بعد أن طالت قنابل المدافع أسطح منازلهم ؟
لم يَطُلْ شرودها
كثيرا فركلاتُ الأرجلِ على باب شقّتها كانت تتزايد حتّى خرّ صريعا أما قوّة
الدّفع ... صاحت بأعلى صوتها ... هرعت إلى غرفة ولديها تحضنهما بشدّةٍ تواري عنهما
قبْح ما يحدثُ و حشرت جسمها في زاويةٍ كأنها
تهربُ إلى حيث الأمان المفقود .
اِقتربت منها يدٌ آثمةٌ و رمت رضيعها على الفراش باكيا و حاول اُبن العاشرةِ أن يتمسّك بتلابيب أمّه
، فدفعه المجرم حتّى أسقطه أرضا و واصل جرّ ها من شعرها جرّا و ألقى بها إلى السّرير .
كانت رأسها إلى فمِ رضيعها فتلقّف أذنها ظنّا منه أنّها
ثديَها .
سارع السّفّاح إلى تمزيق ثيابها حتّى صيّرها عارية
كالشّجرة الجرداء من الأوراق و لم يُعر توسّلاتها بالاً ... أشبعت وجهه خربشات بأظافرها
، لكنها لم تكن غير حركة بلهاء من ضعيفةٍ أمام جبروت المجرم ... عضّت على أناملها تستر
جسمها من أن تقع عليه عيناها وهو يُهتك على مرأى من ولدها الغضّ .
اِنزوى الصّغير يغطّي هو الآخر عينيه بعد أن تحجّرت دموعه في المآقي وهو يرى أمّه تُغتصبُ أمامه و يعجز
عن نُصرةِ من أهدته حياته وتخليصها من براثن الوحش الكاسرِ .
أنهى المجرم فعلته و تركها تغرق في بركةٍ من دماءٍ لا تتوقّفُ غير آبه بمن حوله ، بل أقدم
على رفع الرضيع في الهواء ليشطره نصفين يكحّل
عينيْ أمّه به وهي في رمقها الأخير قبل أن تفارق الحياة .
التفت اُبن العاشرةِ وهو يُؤخذ بالنّواصي و الأقدام
إلى جثّتيْ أمّه و أخيه و قد خَطَّ ملْحُ دموعه طريقا يشقّ وجنتيه المتورّدتين :
_ كأنّ الجوعَ أرحم بنا من هؤلاء يا أمّي
؟ كأنّ الموتَ أستر لي من أراك مغتَصبةً أمامي يا عزيزتي ؟ ليتك لم تخرج يا أبي
... ليتك لم تبكِ يا أخي ... ليتَ عقارب السّاعة
توقّفت قبل أن ينزف جرحي ... ألهذا الحدّ يصلُ الجُرم ؟ أهانت الأرواح حتّى
صارت كالذّباب تتناثرُ ؟ أصار قانون الغاب يحكمنا في أدقّ تفاصيل حياتنا ؟ أين أنا
من طفولةٍ زيّنتُها في حضن أمّي بأكاليل الزّهور ؟ أين صمتُ العالم من صوتي الذي يكاد
يصل عنان السّماء و لا يصل إلى مجالس الأمم ؟
غادر صاحبنا بيتَه يمنّي النّفسَ بأن يُسكت صوتا ارتفع
جائعا بعد حصار شديدٍ جوّع الحيوانَ قبل الإنسان ، فحتّى القمامة صارت شحيحةً خاليةً
من أيّ عُظيْم أو فُتات خبزٍ ...
تاه بين الأنهج المغلقةِ و الأزقّةِ الغاصّةِ بالجثث
المتكدّسةِ و قد فاحت منها رائحةُ الموتِ العفنِ ... تحسّس طريقا ظنّ للوهلةِ الأولى
أنّها مهجورةً لا دبيبَ فيها حتّى للنّملِ ... توغّل زمنا على أطراف أصابعه كالمتسلّل
لحدود العدوّ ، فجأةً أحسّ أنّه مراقبٌ و قد صارت لنوافذ المنازل الصّامتة عيون تتّقد
شررا و أفواه أشبه بالكلاليب تكاد تُطبق على أسماله الباليةِ و مخالب تكاد تنغرز في
جسمه النّحيل بفعل الجوع المتواصل ...
تردّد في الالتفات إلى الوراء و حثّ الخطى إلى الأمام
يسعى للظّفر بالنّجاة ، لكنّه فوجئ بأجسام
ضخمة تكاد تسدّ وهج الشّمس المتسلّل من بين البنايات الكئيبة.
تسمّر في مكانه كأنّه يُعمل النّظر في الخطوة المناسبة
و أخذ يتراجع قليلا إلى الوراء يبغي النّجاة من جديد ، لكن هيهات ، لقد كانت أجسام
أخرى رؤوسها كأنّها رؤوس هراوات تقف له بالمرصاد ، حينها فقط علِم أنّه محاط بخفافيش اللّيل المتسكّعة بين الجثث المنتشرة
عابثة بها دون مراعاة لحرمة الميّت.
علت ضحكاتهم كمن ظفر بصيدٍ سمين و قال أحدهم بغضب ممزوجٍ
بالسّخرية :
_ إلى أين أيها الجرذ ؟
_ أبحث عن حليب لطفل صغير يكاد يموت من الجوعِ .
_ هيهه ... سيكون موته فداء لسيّده و قائده .
ثمّ أمسك به من مؤخّرة رأسه و أركعه أرضا و مرّغ وجهه
في التّراب ضاغطا على أسنانه حتّى أصدرت صريرا مخيفا :
_ اللعنة عليكم يا سكّان هذا الحيّ ... كأنّ لا شغل لنا غير الوقوف عند أبوابكم
نترصّدكم فردا فردا بعد أن وقفتم شوكةً في حلقنا تُضجرون راحتنا و تُفقدوننا صبرنا .
عرف أنّ مصيره الموت لا محالةً ... خاف في البداية
كأيّ إنسان وُلد مسكونا بالخوفِ ، لكن سرعان ما شعر بقوّةٍ عظيمة تكتم أنفاس ذاك الخوف
و رفع رأسه رغم قوّةِ اليد التي تُمسك به :
_ لكنّكم كنتم لنا بمثابة العدوّ ... لم ينج من بطشكم أحدٌ و نحن أبناء جلدتكم
: سبيتم النّساءَ و اغتصبتم العذارى و مثّلتم بالجثث و قتّلتم الاحرار ، حتّى الأطفال
لم يسلموا من جبروتكم ، بل الأجنّة في أحشاء أمّهاتها امتدّت إليها أيدكم الغاصبة و
أحالت ماءها سباخا مالحة لا تُزهر ...
و لم يكد يُكمل جملته حتّى عالجه أحدهم بضربة من قبضه
الغليظة جعلت ذقنه يصل الأرض :
_ اصمت أيّها الوغد ... كلّكم أوغاد ... كلّكم ناكرون للجميل ... تقول عنّا ذلك
و نحن نحرس أنفاسكم و نحمي دياركم و أصحاب الفضل عليكم في كلّ أمركم ؟
تكلّم بصوتٍ محموم و كلمات غير مفهومة مغمّسة في دماء
فمه النّازفة :
_ لستم حماةً و ما أنتم إلاّ مصّاصي دماء لا يُؤتمن جانبكم .
_ سأرغمك على الاعتراف بنا ... هيّا قل : " أشهد أنّكم أسيادنا و تيجان رؤوسنا
و أصحاب الفضل و النّعم علينا. "
رفض أيّ قول فانهالت عليه القبضات تُشبعه ضربا و لم
تسلم رأسه المجروحة من الركلات الموجعة ، و لم يقفوا عند ذاك الحدّ فقد استلّ أحدهم
خنجره و فصل رأسه عن باقي جسمه وهو يقول بصوتٍ مليء بالحقدِ :
_ ستكون عبرةً لغيرك و لْتشْهدْ رأسُك هذه عنادَك و عنجهيتك الكاذبةَ .
_ ستشهد رأسي أنّي لم أطأطئها يوما لغير الحقّ ... سيفتخر بي نسْلي و بنو وطني
من الأحرار أنّي قدّمتُ هذه الرّاس في سبيل هذا الأرض ... ستعيش ذكرى رأسي أكثر من
حياة جلّاديها و سينتهي الظّلم مهما طال .
هكذا هُيّئ لأحدهم أنّه يسمع تلك الكلمات وهو يرى البسمة
مرسومة على شفاه تلك الرّأس المفصولة مخضّبةً في دمائها متربّعة فوق جثّةِ صاحبها لا
تأبه للنّسور المحلّقة فوقها تنتظر دورها من الوليمة .
نزل المجرمون درج العمارة يهرولون كأنّهم يخافون أن
تلحق بهم أشباح الأموات التي تركوها تغرق في دمائها ، و قد ارتفع بكاء الصغير و علا
صياحه تكاد تتفتّح له السّماوات و تنشقّ له الأرض و لا من منقذ أو مجيب .
كان الجوّ غائما و الأمطار الخفيفة تبلّل شوارع المدينة
الغارقة في أحزانها و لا حياة لمن تنادي ، فأغلب الدّكاكين مغلقة و أكثر وسائل النّقل
مفقودة إلاّ من الدّبابات و الآليّات الضخمة لتلك المجموعات تعبر في خيلاء المنتصر
على العدوّ لا على أبناء الوطن .
أسرعوا بالصّغير فرموا به في عربة عسكرية كان سائقها
ينتظرهم أسفل العمارة وهو لا ينقطع عن النّحيب .
_ اصمت يا ابن الفاجرة .
_ أمّي اشرف منك أيّها الوغد ، فلا تظنّن أنّي سأسكت لك و أنت تُشهر سلاحك في
وجهي بسبب صغر سنّي .
قال ذلك وهو يمسح عينيه بكُمّ صداره الذي اهترأ منكبيْه
و انفرطت غُرز صوفه حول المعصم فعالجه أحدهم بلكمة أفقدته توازنه و أسقطته محشورا بين المقاعد .
_ أو تجرؤ أيّها السافل على قول ذلك ؟
_ لم أعد أخافكم و لم يعد للحياة طعم بعد أن قضيتم على حلمي و أملي ... لم يعد
للعيش مذاق و أنا أرى أمّي تُغتصب و أخي يروي ظمأه من الدّم بدلَ الحليب و أبي لا أعلم
له طريقا ... هيا اقتلني و أرحني حتّى ألحق بأحبابي و أهنأ حيث يهنؤون بعيدا عن لون
الدّم و صرخات الصبيان أمثالي ...
_ ذاك أبعد ممّا تحلم به .
ثمّ مرّر يده على وجه الصّبي في نشوة و عربدة و قال
كمن يحدّث نفسه :
_ ستكون رفيقي طيلة هذه الليلة فأنت فاتن رائع حتّى في غضبك أيّها الليث الصّغير .
أبعد ابن العاشرة يدَ السّفّاح عن وجهه و قال في استفسار
الجاهل بالإجابة :
_ من تقصد بقولك ؟ ألن تأخذوني إلى السّجن فربّما أجد أبي هناك ؟
_ سنأخذك إلى حيثُ الدّفء و الرّاحة و تقرّ عينك بشرب الحليب الذي مات دونه أخوك
الرّضيع .
_ لا أريد شيئا منكم ... أعيدوني إلى منزلنا أنتظر مقدم أبي فهو لا يملك مفتاحا
للشّقّة .
تركوه يبكي و يزداد صراخه فيرفس الأرض بأقدامه الصغيرة
و يدقّ بلّور النّافذة بقبضةٍ مكوَّرة تحكي ضعفه كلّما تلاشت و وهنت ضرباتها حتّى أخذه
النّعاس ، و لا يعرف كم طال به الأمر على تلك الحال حتّى أفاق مذعورا على صوت أقدام
تقترب منه و يُلقي صاحبها بجسمه بجانبه و يبدأ في فعلته الشنيعة التي لم يكن ذاك الصغير
يفقهها و لكنّه أبدى دفاعا شرسا رغم غضاضة
جسمه و فكره ، و على حين غفلة من الجنديّ العاري تماما استدار في حركة سريعة
و قفز بعيدا عن السرير فاستشاط المجرم غضبا و حاول اللحاق به لكنّه تعثّر في الأغطية
و انكفأ على وجهه و سال الدّم من أنفه ، فتحيّن الطّفل تلك الفرصة ليهرب من نافذة صغيرة
بالبيت و انبرى يجري في أزقّة المدينة الخاوية على عروشها حيث ينتشر الدّم و رائحة
الجيف في كلّ مكان ...
جرى دون أن يلتفت وراءه منطلقا أحيانا و متعثرا أحيانا
أخرى لا يعرف له هدفا سوى الفرار بعيدا عن الأشباح التي كانت تلاحقه من بني البشر .
كانت الأحداث تتلاحق في رأسه الصغيرة و لا تتوقّف فتغرورق
عيناه بالدّموع الحارّة وهي يسترجع صورة أخيه يُشطر إلى نصفيه وهو الذي كان يمنّي النّفس
باللعب معه إلى حين يكبر و يرافقه إلى المدرسة و يصحبه في لهوه و يقاسمه الوسادة حتّى
يرى أحلامهما بألوان الطّفولة ، و تنبعث فيه مشاعر الغضب و الجنون كلما مرّت بذهنه
لحظات اغتصاب أمّه ، تلك الصورة التي تزيد من وجعه فيصير كالمحموم يهذي بكلمات سرعان
ما يجعلها تخرس داخله خوفا من أن يتفطّن إليه من يلاحقونه ...
مضى الهزيع
الأول من الليل و ياسين لا يتوقّف عن المشي حينا كلما شعر بحركة حتى لا يُلفت
إليه الأنظار ، و ركضا أحيانا أخرى كلّما اشتدّت الظلمة الحالكة في غياب الفوانيس السليمة
من أثر القصف المتواصل .
أخيرا وجد " خربة " قد تكون أشهُرا إلى الوراء منزلا جميلا بحديقة
غنّاء و أناس تجمعهم المودّة يزيدونه دفءا لكنّه اليوم ليس إلاّ أثرا حزينا ، فاتّخذ
من أحد جدرانه الباقية على انتصابها ملجأً و أسند ظهره المنهك إليه علّه يظفر بلحظات
سلام و لو كانت مؤقّتة ، فجلس القرفصاء و جمع يديه إلى صدره كالوسادة ليضع بينهما رأسه
المتعبة و دقّات قلبه لا تتوقّف عن التّسارع بسبب الخوف و الألم في آن واحدة .
أخذه النعاس فرأى في منامه أمّه تضحك فتجلجل ضحكاتها
في الهواء كضحكات الجّنّيات الطّيبات ممّن قرأ عنهنّ في قصص المدرسة و التي كان يأتي
عليها بنهم الجائع و شغف المستكشف ... رآها تلاعب أخاه حينا و تراقصه أحيانا أو تلاحقه
كما كان يفعل بالفَراش يوم يقصد المنتزه صحبة عائلته نهاية الأسبوع خاصّة في الربيع ...
كانت تناديه من بعيد فاتحة ذراعيها لتحضنه ... رأى
شقيقه يغيّر خطواته الأولى نحوه محقّقا توازنه بيدين مرفوعتين إلى السماء كالمبتهل
، و ضحكات المشفق من السقوط ... سعد كثيرا برؤية أمّه التي ظنّ أنّه افتقدها و نسي
أنّه رآها تُغتصب فبادلها البسمة و فتح ذراعيه الصغيرتين و تقدّم راكضا نحوها يُشبع
منها اشتياقه لها و يستنشق عطرها ، ذاك العطر
الذي يميّزها عن كلّ أمّهات الدّنيا ، لكنّه وجد نفسه يسقط على وجهه بين حجارة ذاك
المنزل المدكوك فيتأوّه المسكين و تزداد أوجاعه
و قد شعر بالتهاب جروحه و ارتفاع درجة
حرارته ، فتحرّك قليلا وسط المكان بعد أن كادت أوصاله تتجمّد من أثر البرد لولا أنّ
الجراح أهدته حرارتها و أعارته دفأها و انتظر
بزوغ الفجر و تمنّى أن تُهديه اليقظة سعادة في طعم ذاك الحلم
الكاتبة نجيبة بوغندة
====================
ورودي لكم عفاف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق