الشمس في يوم قائظ
قصة : عبد المجيد يوسف
بدأت الشمس منذ فترة تبكّر في الطلوع كما لو نبا بها المضجع، وتفاقم نورها وسطع واشتد تحديقها في الأرض تتعرّف الأشياء كالمستفـيق من الذهول: ذاك الحقل الذي كان للنسيم في شعره الأخضر عبث ودبيب قد بدأت خضرته تبهت قليلا قليلا وتميل إلى البياض، حتى إذا أسعفه المساء "غطّى المشيب بالزعفران" ... وفي سماء الحقول أطالت القبرة رفرفتها واستطال تحليقها ...نقطة صغيرة سوداء في بحر النور المبهر.
بعد أسبوعين نضج السنبل وصرت إذا أخذت سنبلة وفركتها بين كفيك ألفيت القش جافا واستبانت لك دون عناء حبات القمح، حتى إذا عجمتها بأسنانك وجدتها صلبة لا رطوبة فيها ...لقد آن للحُصّاد أن يشرعوا.
ارتفع الضحى قليلا وبددت حرارة الشمس رطوبة الليل ، في مثل هذه الساعة تنشط في الريف كائنات تلجمها الرطوبة ويخرسها الليل، فهذا صوت الهدهد قد عاد لتوّه من سبإ بنبإ عظيم، وهذه الجنادب التي استكانت إلى الهدوء بعد أناشيد الليل تزهيها الهاجرة فتتم ما بقي عليها من التراتيل .... وتهادت الحاصدة الدارسة باتجاه الحقل وقد ارتفع الضحى يتبعها جراران واحد يسحب مجرورة لنقل الأكياس المعبّأة والآخر شدت إليه آلة ربط الحصيد.
في السرادق المنصوب على حافة الحقل جلس الناظر إلى مائدة مستديرة وهو ينقر بأصابع نشطة على لوحة المفاتيح لحاسوب نقال غير مكترث بما حوله من الضجيج ... فهناك الأصوات المختلطة القادمة من بعيد : صوت خوار يمتزج بثغاء خروف وتنادي العمال وهدير آلة يقترب إنه الجرار عاد محمّلا بأكياس القمح.. وفي الداخل يضج النسوة في تهيئة وليمة تعَد استبشارا بالموسم وبالمحصول الوفير..وفي ركن قصي مائدة ضخمة عليها موقد وأسطوانة غاز وقدور وجفان وكيس دقيق ...ووقفت الحاجة نجمة الـدّريـدية وقد لفت شعرها المخضوب بمنديل وإلى جانبها ابنة أختها محجوبة معاونتها.
توقفت سيارتان ونزل منهما أسرتان هما لناظر الضيعة ولصاحبها ... وقد حجبت النساء أعينهن بنظارات سوداء اتقاء الضوء الباهر فأصبحن هن الباهرات بروائهن وزينتهن وملابسهن المزهرة الخفيفة.
تقدمن في خفر أو ربما في استعلاء فسلمن باقتضاب على من كان بالسرادق من النساء، ونظرن في بعض الحيرة يبحثن عن مكان للجلوس فلم يرين سوى بساط وضع على الأرض وعليه حشايا الإسفنج فوقها لحاف نظيف، وفي أماكن أخرى بسطت جلود الخرفان. وكان الحرج كل الحرج من جلوسهن على الأرض وما يقتضيه من انحسار التنانير عن سيقانهن وهي ملابس لا تصلح إلا للجلوس المرتفع على الأرائك والكراسي
وجاءت زوجة الناظر فهمست له شيئا فنظر ثم فكر وقدّر وأشار إليّ، قلت:
- حسنا.
ونهضت إلى الشاحنة فأدرت المحرك ولويت المقود عائدا إلى الضيعة البعيدة نحو ثلاثة أميال..وما هي إلا أن سمعت صفيرا فنظرت في المرآة العاكسة فإذا بالناظر يلوح بيده أن انتظرْ، وإذا بثلاث من البنات يحاولن اللحاق بي والمشي لا يستقيم لأقدامهن اللطيفة ونعالهن الرقيقة.
تراجعت بالشاحنة حتى أدركنني وفتحت لهن الباب فتسلقن ونظرن المقعد مسودا بالشحوم فعفن الجلوس لكن لم يجدن منه بدا وجلسن حولي متراصات وسرعان ما تبددت رائحة الزيت الثقيل وضاع من شعورهن ريا كالخزامى في رائحة أخرى هي رائحة جسد أنثوي نظيـــف له أريجــــه الطبيعي المحمل بروائح النفس البعيدة في الأعماق ...
وتهادت الشاحنة في الأحراش مضطربة خافضة رافعة وأجسادنا داخلها مختلطة متماوجة واحتكت الساق بالساق وعشت الأحداق ورفرفت أسئلتهن الساذجة وسألنني ، قلت:
- أنا مهندس الميقانيقا.
وصلنا الضيعة وبدا لنا سيدي المؤدب جالسا أمام كتّابه وقد سرّح تلاميذه أبناء العمّال.
ذهب البنات فسلمن عليه ثم نظرن فطالعهن حوض كبير فيه إوزات يسبحن وفوقه حنفية كبيرة فأردن أن يتبرّدن فذهبتُ إلى المضخة فانبثق ماء دافق فخففن إليه ولم ينفرهن الإوز فاخــــــتلط بهن، فعابثنه وسررن به سرورا وكشفن عن النحر والذراع والساق وحملن الماء
بأكفهن إلى وجوههن ونحورهن وشعورهن وسيقانهن.
وعدت أنا أقف عند المؤدب وأنا أنظر إليهن يرفعن الماء ويتراشقن به ويتصايحن في فزع كذب ..وفي تلك اللحظة جاءت من خلف مبنى الكتاب فتاة هي ابنة المؤدب فتفاجأت بوجودي وحيتني على استحياء وقدمت كأسا من التاي إلى والدها واقترحت أن تأتيني بكأس فشكرت واعتذرت وكنت إذّاك منشغلا بالنظر إلى الحوض. ولما انصرفتْ سمعت المؤدب يقول:
- حسن الحضارة مجلوب بتطرية * وفي البداوة حسن غير مجلوب.
عاد البنات من الماء فانشغلتُ بأمرهن ومن يتنفـّضن ويتنشّفن وقد شفـّت عنهنّ المرقّقات بالابتلال فهن كالشموس من خلال السحاب... وفتحتُ لهن باب الشاحنة فركبن وهن في بقايا عبث ودلال وأدرت المحرك. فقال المؤدب وهو يحاورني :
- ألا تخشى أن يقال عنك زوج الإوز؟
لم أفهم مقالته فتجاهلتُ .
أتم عاملٌ شحنَ أريكتين وكراسيَ وعدنا إلى الطريق المضطربة وقد انضافت إلى الغرفة ريا جديدة هي رائحة الأرض البكر يغشاها أول المطر.
ولما وصلت الشاحنة إلى السرادق أنزلت الأرائك والطنافس والكراسي واستقرت النسوة واطمأنن ثم وصل الجرار محمّلا بأكياس القمح.
وكان وصوله إشارة إلى الخالة نجمة ووزيرتها لتطلقا الزغاريد و لتنشطا في إعداد الوليمة ، فضاعت رائحة الكسكسي وهو يضمّخ بالمرق ووقـف الناظر أمام السرادق فأشار بالحركات للعمال أن توقفوا لاستراحـة الظهـيرة، فهمـدت المحـركات وفـي فم الـدرّاسة سنـابل لم تـــدرس. وتوافـد العــــمال على السرادق في فذلكة ودعابة وتدافع وأقبلوا على صفائح الماء يغتسلون ويتبرّدون ويزيلون ما علق بشعورهم وأهدابهم وشواربهم من دقيق الغبــار.
وتمددوا علـى الأرض ينتظـــرون الدعــوة إلى الطعام .
ويتطلعون في خفر واستراق نظر إلى النساء .
وُضعت على الأرض ثلاث جفان بها كسكسي عظيم عليه جزر من اللحم منتثرة عليه حبوب الحمّص وقرون من الفلفل وحبوب من العنب الزبيب، وأعلنت الحاجة نجمة تقسيمها الإداري للجفــان : واحدة للرجال وهي الأكبر، وثانية للنساء وثالثة للأطفال، وأقبل الرجال على الجفنة بنهم وخشونة، أما الوافدون من المدينة فبتحفظ وحذر واعتدال....وما هي إلا أن طاف على قصعة الرجال طائــــف فتصارعت الملاعق على الثمالة.
وتسربت منهم نظرات مسترقة خائنة حاسدة إلى قصعة النساء لم يصبن منها إلا القليل
تفطنت سيدة إلى الأمر فأومأت الحاجة نجمة أن تفئ عليهم مما بين أيدي النساء فقربت الجفنة الخاوية فأفرغت فيها من الملأى، وأعيدت إلى موقعها وصدرت الملاعق إلى الأفواه مشحونة.
بعد الطعام قاموا فاغتسلوا في آنية يعوم فيها قطعة من الصابون، ثم عادوا فتمددوا وأشعلوا السجائر وخللوا أسنانهم بالقش وتجشؤوا وتلمظوا وتذاكروا أمر العمل وتنبؤوا بأمطار الخريف المقبل وحللوا العلامات الدالة عليه واستبشروا ....
ثم صمتوا وأغفى بعضهم، وخفق رأس العابد العياري وكاد ينكبّ على وجهه، فضحكوا منه، فاستفاق ، ثم عاوده النعاس، فقرّب أحدهم قشة من أنفه يدغدغه...
في تلك اللحظة علا صراخ إحدى البنات وقفزتْ في هلع واحتمت بركن من السرادق وشاركتها رفيقاتها الفزع والصراخ ولـُذ ن بأماكن رأينها منيعة ، وصرخن:
- حنش ، حنش !!
اهتم بعض الرجال فقاموا وظل آخرون ساكنين غير مكترثين .
وخف المختار بن بحري إلى رفش رفعه وجدّ يطارد الثعبان الذي طلب كومة قش خارج السرادق فاحتمى تحتها. رأيتُ عينيْ المختار تلمعان وعلى وجهه احتقان وعنف وفحولة وهو يرفع الرفش يريد أن يهوي به على كومة القش.
أمسكتُ ذراعه مرفوعة ًودفعته بشيء من العنف والعزم وقلت:
_ عطشان أجـاءه العطش إلى حيث يتوقـع الماء.
وبحثتُ كومة القش بيدي والنساء تجمهرن في مدخل الســــرادق ينظرن.
وتهيأ الثعبان للدفاع وقد أحيط به فرفع رأسه عن الأرض يتابع حركة يدي تشاغله وباليمنى قبضت على عنقه ورفعته فتلوى والتفّ على ذراعي وانبعثت من حناجر بعض النسوة صرخات حادة وما لبثن أن هــدأن . قلت:
_ آتوني قنينة ماء.
قالوا:
_ لمه؟
حملت القنينةَ والثعبانُ في يدي يبحث بلسانه المزدوج في الهواء وابتعدتُ عن السرادق.
ولما عدت كان قد سكتَ عن النساء الهوْلُ ودخلن السرادق إلا ناهدا ظلت واقفة تحت الشمس كالمترقب أوبتي، نظرتْ إليّّ وقد حمّلت عينيها معاني...ودخلتْ.
ظل الجمع يخوض في حديث الحنش، وكانت ناهد تصوّب إليّ بين الحين والحين تلك النظرات المبهمة بأشعة سوداء من خلال أهدابها الطويلة المفروشة كحقل صغير من السنبل المكتنز ... كانت في ظل السرادق متوهجة كالشمس في يوم قائظ .
وطافت محجوبة على الحاضرين بطبق فيه أكواب التاي الكثيف الثقيل القاتم مبتدئة بالرجال، فشربوا وأشعلوا لذلك سجائر حديثة.
عزم الحاضرون على مبروك البريكي أن ينفخ لحنا فتمنّع وهو الذي لا تفارق القصبة حزامه ، وألحوا فاستعصم وأقسموا عليه فقاوم ثم انهار ونفخ .
ثم ارتفع صوت من النساء بالمزموم :
بالله يا حـمـد يا خويـا * ياراكـب العــــتـيد
فجاراه المزمار والتقيا وسارا.
ولما وصل الصوت إلى القول:
هـز الخبـر وولـي * لنــجعـنــا دريـــــــــد
استعبرت نجمة الـدريدية وحنّت وهشّت للتذكر ونما صوتها بالنحيب، وظلت ابنة أختها ترقبها مترطّبة الجفون ثم ناولتها منديلا فمسحت عينيها وتمخطت . ولاحظ الزمّار سلطانه على المهج فانتابه العُجْـــب وزاد في النفخ وأطنب في الاسترسال وأمعن في التموّج ...
***
وما هي إلا أن طافت عليهم محجوبة بالكأس الثالثة وهي الأخف والأطيب، فشربوا ثم أغرقوا في الصمت إلا من نحنحة أو سعال أو استغفار. ثم تمطى سائق الحاصدة وقام وئيدا إلى أ لــته وتبعه الآخرون في بطء.
2007
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق