الخميس، 22 أغسطس 2013

ليت هندا للكاتبة صفية قم

المبدعة صفية قم


ليت هندا
===========


 جلس إلى نفسه وحيدا ... أخيرا قرّر أن يجلس بمفرده إلى نفسه... وأخيرا استطاع أن ينفّذ القرار العسير الذي طالما راوده عن نفسه, بل وسكنه ليلَ نهارَ حدّ الاختناق ... دعا بعضه إلى بعضه بعد أن تشظّى على مرافئ الترحال وبوّابات موغلة في الانغلاق والعتمة... أحرق مراكبه وكسّر المجداف حتّى لا عودة... لقد كره مدن الصّقيع والضباب التّي أقام بها دهرا ولا يزال طعم الملح  والعرق عالقا بروحه... هو مصرّ الآن على أن يلملم بقاياه وأن يدعو شتاته حتّى يشيّد له ذاتا غير التّي علمها عن نفسه وسبّبتْ له حرجا... عاد إلى الوطن ولا شيء معه غير حقيبة من ذكريات أمرّ من العلقم ومنظارا أسود يرى من خلاله العالم حالكا وفي أحسن الحالات وأجلاها رماديّا مبعثرا ...
تذكّر والدته وهي تودّعه عند الباب, في أولى سفراته إلى هنالك:" لا تخالط الذّئاب يا ولدي حتّى لا يفترسوك!!" وأسرّ إليه والده وهو يحمل عنه حقيبته تلك الخاوية إلّا من بعض ثياب وطعام وكثير من الأحلام: "في بلاد الغربة, لا بدّ من أن تستنبتَ لكَ مخالب وأنيابا حتّى تتغذّى بمن يريد أن يتعشّى بكَ!!... الحذر, الحذرَ, الحذر, يا بنيّ من العيون الزرقاء التي قد تفتك بك
انتبه إلى نفسه معاتبا: " لم آتِ إلى هنا إلّا لأختلي بنفسي وأرتّب أوراقي وأنسى كلّ سنوات العذاب التّي مرّت عليّ ...فمالي والذكرى؟! إنّي لا أبغي غير النسيان, نسيان كلّ شيء, كلّ شيء, حتّى أبدأ من جديد ..."
نظر حواليه, يريد أن يختلي بنفسه... ولكنّ قدميه قاداه إلى هذه المقهى!!! ندّت عنه ابتسامة امتزجت بها شتّى المشاعر المتضاربة " أيطلب عاقل الخلوة بمقهى؟! يا للجنون !!!بل إنّه لفي حاجة ماسّة إلى قهوة مرّة يترشّفهارشفةً, رشفةً كما ترشّفت الغربة أحلامه في غفلة منه! أين النّادل إذن؟
تلهّى بجوّاله يعبث بأرقامه دونما رغبة في أن يتّصل بأحد... تملّى قائمة الأصدقاء المسجّلين على الشاشة الصّغيرة..." أفٍّ,  أُف" لهذا الوباء, كم كرهتُ نفاقكم وتملّقكم وجحودكم... لأنتم الغثيان وليس لي إلّا أن أتقيّأكم ..."
أشعل سيجارته وظلّ ينفث الدّخان ندفا وبه شبق إلى قهوة يترشّفها على مهل فتزيل صداعه وقلقه أو هكذا يظنّ... لم يمرّ به النّادل والمقهى تضجّ بمرتاديها وصراخ لا عبي الورق يشتدّ ويحتدّ وصخب النّقاشات السّياسيّة العقيمة والكرويّة الهزيلة ترتدّ إليه فتُعمّق فيه الإحساس بالغربة والضّياع... " ياه, حنانيكَ ربّي أهذا شعب قام بثورة, راجيا التغيير؟!! " تراءت له المدينة على حالها كما تركها منذ جيلين ونيف... تلاحقت دوائر الدّخان صعدا وتسابقت أنفاسه تعدّ خيباته وانكساراته وتحصي عليه زلّاته وكبواته... خنق السيجارة, بعصبيّة متشنّجة في علبة السّجائر وهمّ بمغادرة المكان إلى حيث لا يعلم... انتصب النّادل أمامه بوجهه الخشبيّ الكالح دون أن ينبس بكلمة... انتظر النّادلُ برهة دون أن يطلب منه شيئا, ثمّ سأله, في فتور عمّا يرغب في تناوله... تردّد قليلا ثمّ قال: قهوة صادة, من فضلك! ظلّ النّادل متسمّرا أمامه وهو لا يعبأ بوجوده ولمّا طال به صمته, سأله:ألا ترغب في شيء آخر؟! أومأ إليه برأسه أن انصرف فلا رغبة لي إلّا في قهوة بلا سكّر أبتلع بها مرارة حياتي وعلقم خذلاني وانكساراتي وقد ينسيني سوادُها ظلمةَ خياراتي... تلهّى عبثا برتق الماضي بالحاضر فما حاكت يداه المرتعشتان غير أسمال بالية قذرة, منفّرة... استدرك هذا العبث المضني بقضم لسانه حتّى كاد يُدميه ولطم الطاولة بجام غضبه بينما كان صهيل روحه يتحشرج بين ضلوعه فيختنق ولا تسعفه العبارة ولا حتّى الإشارة... تمرّدت على خدّيه دمعتان, كانتا جمرتين من لظى الحرائق التي أكلت أيّامه  وما رحمت أحلامه... رائحة الدّخان والرّماد تسدّ عليه طريقه وتنذره بالعمى وهو لا يزال صامدا يقارع بؤسه في يأس شرس يغتاله نبضا, نبضا وينتظر النّهاية, كيفما كانت دون أن تأتي ...  
 انتبه إلى أنّه قد أضحى عاجزا تماما عن النسيان, فأينما حلّ وحيثما صوّب وجهه يطالعه ظلّه, شبحه المرعب الذي يلاحقه بلا هوادة ويسدّ دونه جميع المنافذ المتاحة على ضيقها وندرتها...
بردت القهوة, دون أن ينتبه, وهو لا يشربها غير ساخنة, ترشّف منها رشفة يتيمة وركل الكرسيّ في عصبيّة وترك المكان مهرولا لا يلوي على شيء... 
طاف بكلّ شوارع المدينة وتسلّل إلى أزقّتها دونما هدف أو وجهة يقصدها... أعياه السير وأضجرته عيون النّاس ترمقه, كائنا عجيبا... قادته ساقاه إلى ذاك الشّاطئ الصخريّ المهجور ... اعتلى ذؤابة صخرة ضخمة حادة كأنياب الشياطين وطفق يغنّي غناء أشبه بالنّحيب... همس إلى نفسه: " ماذا لو اعتزلتُ النّاس وغباءهم وكفرهم وعنتهم وضجيجهم واتخذتُ لي بيتا بين هذه الصّخور المترامية!! " أجابه الصّدى:" أهلا ومرحبا! "... تشظّى المشهد أمامه وامتزج الحضور بالغياب فترنّح ثملا بينهما وتمنّى لو يشرب البحر, جرعة, جرعة, عساه يقضي على جوعه وظمئه... هبّت عليه نُسيمات عليلة أيقظت فيه إحساسه بالمكان... نظر إلى ساعته في بلاهة دون أن يعي إشارة عقاربها! امتدّت يده إلى جيبه وأشعل سيجارة وظلّ ينفث دخانها كمن يتخفّف من أعبائه... أشعل الثانية فالثالثة والتهمها بشراهة من يطارد سرابا يخاله ماء زلالا... أحسّ بلدغات تسري في كامل جسده المتهالك لتقتحم عليه كلّ شرايينه وأوردته... صاح من الألم... اهتزّت الصخرة... نبتْ الرّمال زحفا... لم يبق سواه والبحر ... تملّكه رعب من أن يبتلع الماءُ الطينَ... همّ بالقفز من الصخرة هاربا... علق قميصه بذؤابتها... خلعه فتمزّق بين يديه إربا, إربا... جُنَّ جنونه فرمى بسرواله وراء ظهره وظلّ يحملق في الفضاء الرّحيب... لا أحد سواه والبحر فهل يتطهّر وينسى فيمسي إنسانا سويّا؟؟؟ ليتَ ذلكَ يحصل!! صوّب ناظريه إلى اليمّ وهو يحتضن سماء غائمة في خشوع من قذف الله في صدره نورا فعرف ربّه لأوّل مرّة... غمرته نشوة ما عرفها قطّ في حياته... قهقه طربا كما كان يفعل حين تدغدغه أمّه مداعبة لتمتحن مدى غيرته... رمى بزوجي حذائه في اتّجاهين متعاكسين وحذفهما بجوربيه النتنين وشفع  الكلّ بتبّانه الذّي لا يتذكّر متى لبسه... ظلّ يتبختر جذلا بعرائه راجيا أن تتجلّى له نفسه نقيّة عذراء لم يمسّها أيّ رجس!!! سمع رنين جوّاله. أسرع إليه وانتزعه انتزاعا من سرواله ودون أن يفتحه رمى به في اليمّ وهو يصرخ في هستيريا مروّعة: " اليوم تُقْبَرون إلى الأبد, اليوم أنساكم , اليوم أتحرّر من كوابيسكم , إلى الجحيم جميعكم ... "  لم يرفّ له جفن ولم تدمع له عين, بل كان كجلمود صخر جيئ به من علٍ... تردّد قليلا  قبل أن يهمّ بتجميع ملابسه والقذف بها إلى اليمّ ..." ماذا لو هبّت عاصفة أو هطل مطر؟! لا بدّ من بعض تريّث..."
شخص بكلّ  ما تبقّى من جوارحه وقواه إلى الغروب يوشّح الكون بجلال حمرته وجمال امتزاج بقايا خيوط النور بالظلمة الزاحفة...  ارتعدت فرائصه وتجمّدت الدّماء في عروقه وارتجّ عليه الكلام ...تأتأ : " إنّها هي ... هي, هي, والله ...إنّها هي..." وقبل أن يقذف بنفسه في اليمّ, رآها تميس مقبلة عليه, غيداء كما عرفها, شمّاء كما عهدها... صاح فرحا أو فزعا أو كليهما معا: " اقتربي, اقتربي, تعالي, كم اشتقتُ إليكِ!!!"  كانت تتهادى, تقترب حينا وتبتعد آخر... تطفو مرّة وتغوص في اليمّ حتّى لا تُدرك لها أثرا ولا عينا, مرّة أخرى... وما بين مدّها وجزرها كان يغرق في الوهم ويدوس على الجمر... دون أن يدركَ جبروت الزّمن ولا خدعة البصر ... استفزّه حنين جارف عتيّ إليها فرأى البحر يغوص في عينيها والقمر يقترض هالة من نور محيّاها والشّفق يستعير بعض توهّجها ويرتسم على خدّيها وشفتيها... دكّه حنين إلى جيدها وخالها وعطرها... فارتمى كالمجنون يحتضنها بشبق الغياب في الحضور ولهفة الفراق في الذكرى ... استقبلته صخرة صلدة كادت تدقّ عنقه فانهمرت دماؤه وأُغمي عليه...
عثر عليه بعض السيّارة فجرا... حملوه إلى المدينة, شاخصا, بين الموت والحياة... لم يكن يردّد, بلا هوادة إلّا جملتين يتيمتين
: " ليتَ هندا أنجزتنا ما تعد  +  وشفتْ أنفسنا ممّا تجدْ!! "
,تناقل أهل المدينة أخبار رجل غريب وفد على المدينة, قال بعضهم:إنّه انتحر غرقا وكذّب بعضهم الخبر قائلين: بل رُفِع إلى السّماء إسراء ومعراجا وزعم فريق آخر أنّهم رأوه محمولا زقفونة على جناحي إحدى الحوريات المحلّقات على مدى البصر, وأردفت جماعة أخرى : بل اغتالته أيدي السّلفيّة الغادرة... وتلقّفت وسائل الإعلام الخبر وتناقلت تصريح المسؤولين على أمن البلاد والعباد: أوهم الرّجل الغريب بارتكاب جريمة لأسباب شخصيّة وعائليّة وإنّه لفي صحّة جسديّة وعقليّة جيّدة !!! 

مساكن, في 22 أوت 2013


الكاتبة صفية قم

=====================


ورودي لكم أختكم عفاف


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

LinkWithin

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...