الاثنين، 5 مايو 2014

وشم على وشم للكاتبة نجيبة بوغندة



الكاتبة نجيبة بوغندة


وشم على وشم

اتّخذتُ كعادتي مقعدًا يُشرف على وجه البحر المترامي على مدّ البصرِ و سرحتُ أريح ناظريَّ عند مرفئه ... سحرتني زرقته الفاتنة و التقاؤها بألوان نباتاتِ الزّينة على أطرافه : بين برتقاليّ صارخ و أبيض في لون القلوب الطّاهرة و أخضر يخضّب أكفّ الجنائن الخلاّبة متسلّقا جدران المنازل الفارهةِ ... لم أكن أرفع بصري عن ذاك المشهد إلاّ لملاحقة طيور النّورس وهي تدفع برؤوسها تحت الماء لاقتناص الفريسة ثمّ تعود عودة المنتصر لتزيّن فناء السّماء الواسعِ ...
قلّبتُ " مشموم الياسمين " بين أصابعي كمن يُهدهده هدهدةَ الأمّ للوليد و أدنيته من أنفي أستنشق عطرا يذكّرني بحقبةٍ من الزّمن الجميلِ ... أطلقتُ تنهيدةً  لم أحسب لها حسابا ذكّرتني بابن الثانيةَ عشر ذاك الذي لازال يسكنني  و لم يغادر شواطئي على مرّ السّنين ... أشتاق إليه كشوق الزهور للربيع ... أحنّ إليه كحنيني إلى " كسرة أمّي "... أحلم به كحلم العصفور بالعشّ ... أرسمه على خدّي بأطراف أناملي كلّما آويتُ شتاء إلى سريرِ باردِ كأنّي أتدفأ بتلك الذّكريات التي حفَظتُها داخلي و قبضتُ عليها بالنّواجذ حتّى لا تـضيع منّي :
_ إيه ليتَ الطّفولة تعود يوما فأحدّثها حديث المحبِّ العاشق و أبثّها هموما  لم يكن يتّسع لها صدري الصّغير آنذاك ...
عشتُ طفولةً في بداية حياتي  في العاصمةِ حيث ألفتُ الزّحمةَ  و أصوات الباعة المتنقّلةِ في الأزقّةِ و الأنهجِ و رائحة القهوة المُستورَدةِ تضوع في الصّباح الباكر من المقاهي المتراصّة على جنبات الشارع الممتدّ أو شذى أكاليل الفلّ و الياسمين المدغدغة للأنــــوف و التي يسهر باعاتها على ترصيفها في أشكال تُغري النّاظر باقتنائها مهما مانع  و تمنّع ...
كنت  كلّما زارنا جدّي أصحبه إلى المقهى المحاذي لمنزلنا  فيُجلسني قبالته جلسةَ النّدّ للنّدّ بعد أن يشتري مشموما لي و آخر له يضعه وراء أذنه ثمّ يشرع يحدّثني بما تهوى نفسي عن حياتهم بمسقط رأسه :
_ لقد ولدتْ الفرس مهرا جميلا رائعا ينتظرك ظهرُه لتعتلي صهوته في زيارتك القادمة .
فأفرك كفّا بكفّ و أختصر المسافات لتجدني أركض به وسط الحقول و ألاحق الخرفان التّائهة منّي ... أمسح على وجهه و أرتّب خصلات شعره الملساء في حنوّ الطّفل على وليدٍ مثله و أقبّله بين عينيه ...
_ أين سرحتَ يا بنيّ ؟
_ كنت أجوب الحقول على ظهر المهر الصغير يا جدّي .
فيغرق في الضحك من خيالي و يُدني جبيني من فمه ليطبع قبلة كأنّه بــــها يُحيّي شطارتي و سعةَ خيالي .
كانت حياة المدينة على صخبها و زحمتها رائعة خاصّة كلّما أقبل المساء فتدبّ في أوصال الحاضرة حركةٌ  تزيد من عمر الليلِ السّاحر فيأنس بزائريه و يأنسون بسحره و لم تكــــن حياة أرض الأجداد أقلّ منها روعة و سحرا حيث تمتزج عطور البساتين بعبق البحــــــــر و تتصافح خضرة المرج مع زرقة اليمّ .
لم تكن حياتنا مستقرّة بسبب شغل أبي فكنّا ننتقل شمالا و جنوبا ؛ شرقا و غربا حسب نداء الواجب و مع ذلك لا أجد صعوبة في التّأقلم و سرعان ما أجد مـن يؤنس طفولتي و شبابي و يرافقني في حلّي و ترحالي .
أذكر يوم انتقلتُ من المرحلة الابتدائيّة إلى المرحلة الثانويّة بمعدّل ممتاز فطلبتُ من أبي أن يسمح لي بزيارة خالي في مدينة ساحليّة و فاجأني بعدم معارضته لطلبي ، أنا الفتى الذي عاش دائما في جلباب أبيه ، إذ لا أفعل شيئا إلاّ بعد عرضه  للنقاش على العائلة ...
 حزمتُ أمتعي كمن يُعجّل بفعل أمر قبل أن يغيّر والدي رأيه ... أمضيت أياما أجوب الشاطئ وحيدا أسبح حينا و ألهو أحيانا و أعزف أحيانا أخرى عن ولوج الماء ، فلا أجد صديقا يشاركني لعبي و لا يُهديني الشاطئ رفيقا يسابقني و لا تهبني الوحدة أنيسا يزيح وحشتي كلما أردتُ تغيير المزاج ...
و ذات يوم و بينما كنت أجلس تحت ظُلّةٍ من السّعف إذ تسمّر إلى جانبي ظلُّ طفل أحسبه في عمري و لمّا طال وقوفه رفعت عينيّ أستطلع الأمر :
 كان طفلا ندّا لي ؛ ترافقه بنت في مثل سنّه ... كان يظهر عليه أنّه غريب عن المكانِ ... ربّما هو زائر مثلي أو حديث عهدٍ بالسكن في تلك المنطقة ... فرحتُ فرحا شديدا حاولتُ إخفاءه عنه ... شعرتُ بأنّي لن أبقى وحيدا بعد اليوم ... أحسستُ أني وجدتُ الصبيّ المناسب الذي سيقاسمني وقتي و يصنع معي سعادتي ... رسمتُ له ابتسامةً بريئةً أظهرت غمّازتيّ المرسومتين على وجنتيّ  كمن يدعوه للجلوس :
_ تفضّل يا صديقي فالظّلّة تتّسع لكلينا و لقريبتك .
و بسرعةٍ نشأت صداقة حميمة بيننا كأنّها موغلة في القِدَمِ و صرنا لا نفترق إلاّ عند النّوم ... ترانا صباحا نلقي بأجسادنا الصغيرة بين الأمواج نحضنها فتبادلنا القُبُل أو نركض على حافّة الشّاطئ نساير حركة مدّه و جزره أو نجمع الأصداف المختلفة لنزيّن بها واجهات القصور التي كنّا نشيّدها من الرّمال الذّهبيّة و نتفنّن في هندستها ...
كنتُ أبني القصر فتُقبل الموجة ساخرةً و تهدم ما صنعت يداي و أحيانا يسبقها صديقي فيهدمها بركلةٍ من رجله و يهرب فألحق به و أجرّه من شعره و أغمس وجهه زمنا تحت الماء حتّى تسترخي حركته فأتركه يصارع نفَسًا قد انقطع عنه زمنا ، لكنه لا يغضب منـي و يعود كلانا إلى الآخر بشوقٍ أكبر إلى أن تتوسّط الشّمس كبد السّماء فيعود كلّ منّا إلى مسكن قريبه يمنّي النّفس بلقاء بعد العصر عند الميناء ، حيث تنشط  حركة الصّيد و تتعالى أصوات الصّيّادين بأهازيج البادية فتزيد المكان سحرا إلى جانب أصوات النّوارس المقتنصة  للفرص الجاهزةِ ...
كنتُ أجلس إلى الصّيّادين أغبطهم على وسائل الصّيد المتاحة لهم و أسمع منهم عن أساليب تلك الرّياضة التي يهواها قلبي  حتّى صرت كظلّهم أو أقرب ؛ أألفهم و يألفونني و يسألون عنّي كلّما تأخّرتُ في الحضور ... لم أكن أذهب وحدي بل أصحب صديقي معي بعد أن صار هو الآخر ظلّي رغم قصر مدّة تعارفنا ...
و ذات يوم كنت أقف عند الشاطئ أنتظر قدومه كعادتي ... لكنّه لم يأت ... تسارعت دقّات قلبي ... أخذتني الهواجس بعيدا ... تزاحمت الأفكار السّيّئة في مخيّلتي :
_ ما الذي حدث معه ؟ لماذا لم يأت ؟ أتراه نسي موعدنا ؟ هل حدث له مكروه ؟ هل سافر دون أن يودّعني ؟
بقيت على هذا الحال زمنا حتّى آيستُ قدومه ، فقفلتُ راجعا أجرّ أذيال الخيبة ... نعم خابت أمانيّ في وجود صديق يقاسمني لهوي و ضحكي و يمسح عن قلبي وحدةً في غياب من هم في مثل عمري في منزل خالي .
مرّت السنوات مخلّفة تلك الذّكرى محفورة في وجداني ما أكاد أنساها حتّى تذكرها الأيّام  في واقعي ... و انتقل أبي من جديد إلى مكان آخر للعمل و بطبيعة الحال رافقناه في رحلة المشاقّ ... شعرتُ بنفسي كمن يُجتثّ من أرضه  لكن سرعان ما تأقلمتُ ... و لا تسل عن فرحتي لمّا وجدت ثلّة من الأقران أهدتهم لي السّماء فأزالوا عنّي وحشة التّرحال ... أمضينا سنة تقريبا بين الدّراسة و الفسح و المرح و رحلات الصّيد في بعض الأحيان حتّى شارف العام على النّهاية لمّا أقبلتُ أزفّ لهم خبرا لا أظنّه يسعدني كما لا يسعدهم بالمرّة :
_ كأنّ الحياة يعزُّ عليها أن تُهديني راحة السّفر ... ها هي السنوات تمضي و معها يمضي العمر و ها نحن سنشدّ الرّحال من جديد في رحلة المتاعب ...
_ كم أكره لحظات الوداع القاتلةِ .
و فجأةً استدار نحوي صديقي الأكثر قربا إليّ منهم جميعا و قال  وقد انبسطت أسارير وجهه :
_ تذكّرتُ اليوم يوما مشابها كنتُ قد مررتُ به دون أن يحدث في الواقع ... اختلقته يوما لمّا غادرتُ صديقا لم تُتح لي الفرصة أن أودّعه .
_ عمّا تتحدّث أيّها الخلّ المتفلسف ؟
لمعت عيناه كمن قفز إلى ذهنه حلّ غير مبرمجٍ :
_ منذ متى و أنت تكتب بيدك اليُسرى ؟  
قهقهتُ عاليا أغطّي دموعا وجدت طريقا إلى عينين ملّت هجر الأصحاب ... عينان لم يأن لهما أن تكسبا صداقةً مطوّلةً :
_ أتتحدّث جادّا ؟ ما دخلُ يدي و كتابتي فيما نحن فيه ؟
واصل كلامه كمن لا يأبه لتعليقي و بادرني قائلا :
_ أين قضيت عطلة اختتام المرحلة الابتدائيّة ؟
اعتدلت في وِقفتي كأنّ الأمر جللٌ و قلتُ :
_ في منزل خالي بجوهرة السّاحل .
_ ألا تذكرّك تلك العطلة بشيء عزيز إلى نفسك ؟
_ هي أعزّ فترة في حياتي ... هي أعزّ ذكرى حفرتها الأيّام في قلبي ... هي أمتع لحظات كنت ألاقيها فتلاقيني و أضع رأسي على صدرها فأحضنها و تحضنني و تمسح عنّي كآبتي كلّما اشتقت إليها ...
_ هيّا أجبني و كفاك هراء و مزاحا .
_ بما أجيبك يا صديقي العمر ؟
_ سنرى إن كنتُ صديقَ العمر ... ألا تذكر فتى في مثل عمرك قابلته في تلك الفترة  كان يرافقك إلى متجر خالك لبيع الزرابي وسط المدينة ؟
_نعم ... نعم ... هو ذاك فعلا من أحنّ إليه ... هو ذاك من أذكره في سرّي و علني ... هو نفسه الذي زيّن طفولتي ، تلك الطفولة التي ترافقني إلى اليوم ... هو نفسه من تشتاق عيناي لرؤيته و تتمنّي أحضاني أن تقرّبه من صدري ... هو نفسه من قفز إلى ذهني الآن و أنا أودّعكم ... ليته يعود ... ليتني أراه فأسأله عن سبب رحيله دون أن يودّعني أم هو يمقت مثلك لحظات التّوديع ؟
و فجأة و دون سابق إنذار وجدته يرتمي في حضني و يُشبعني تقبيلا و يعتصرني بين ذراعيه :
_ لقد عدتُ إليك يا صديقي ... لقد أهدتك الأيّام رجاءً تحقّق لك بعد طول الزّمن ... صديقك يعزّ عليه فراق أحبابه لذلك لم يحضر لتوديعك و لم يخبرك بموعد الرّحيل ... لم تنجح قدماي في الوصول إلى الشاطئ حيث أنت ، فبعد أن قاربتْ على قطع نصف المسافة إليك عادت أدراجها لتحمل حقائب السّفر و توفّر عليك أن ترى دمعة في عيني صاحبها ...
_ لا تقل لي أنّك أنت نفسه ذاك الذي أبحث عنه زمنا من العمر ؟ لا تقل أنّك ذاك الشخص الذي تاه مني وسط الزحام ؟ لا تقل لي أنّك نفس الطّفل الذي أحنّ إليه أبد الدّهر ؟
_ أنا هو يا صاحب العيون الزّرقاء ... أنا نفس الشّخص الذي كنتَ تهدم له قصوره بيدك اليسرى و تجرّه بنفس اليد من شعره تحت الماء  حتّى تضعف حركته وحينها فقط كنت تتركه .
حين أذكر تلك اللحظات ، أنا الذي شارفتُ على الخمسين من عمري أحنّ إليها مـــن جديد و أتمنّى لو تُهديني الأيّام لحظة في مثل صدقها و روعتها ...


الكاتبة نجيبة بوغندة



================

ورودي لكم




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

LinkWithin

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...